غير بعيد عن مركزين اقتصاديين ضخمين، تقبع جماعة قروية محاذية جنوبا لمركب صناعي كيماوي يكرر الفوسفاط ليسترخج السماد ليخصب الأرض، وشمالا لمدينة آسفي مدينة البحر والتي تعني في اللغة الأمازيغية النهر أو الوادي… هذا القرب لم يخرج جماعة قروية تقطنها قرابة 30 ألف نسمة من العطش، والأنكى أن اتفاقية وقعت في قبل عشر سنوات بميزانية 4 ملايير سنتيم لتشييد سقايات، لم ترى النور بعد.
في هذا التحقيق” الجماعة القروية “حرارة” التي تسير فيها الأشغال ببطء شديد. إذ بعد عشرات سنوات، هناك فقط أربع سقايات يستفيد منها السكان من أصل 90 سقاية مبرمجة، 65 لم تر النور بعد، بينما بنيت 20 سقاية دون صنابير ولاربط بالماء، حيث يشبهها السكان بشواهد القبور. في هذا الربورتاج شهادات السكان، ووجهة نظر المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، ورأي البنك الدولي الممول للمشروع.
قساوة الأرض وجفاء الإنسان
لم تسعف الطبيعة سكان الجماعة القروية حد حرارة القريبة جدا من مدينة آسفي، كما لم تف وعود البشر بالتزاماتها مع السكان لتوفير الماء لهم، رغم انطلاق مشروع ضخم قبل عشر سنوات، ساهم فيه البنك الدولي والمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب إضافة إلى الجماعة القروية، والنتيجة: انتصاب سقايات بدون صنابير ولا ربط مائي، رغم أن المشروع كلف 4 ملايير و400 مليون سنتيم، فما هي حكاية هذا المشروع الضخم الذي لم ير النور رغم مرور ما يقارب عقدا من الزمن؟
رغم وقوعها غير بعيد عن مجمع الجرف الأصفر، وموقعها القريب جدا من مدينة آسفي، حوالي 19 كيلومتر، يجثم العطش بشدة على صدور السكان، رغم أن أسرا دفعت مستحقاتها المالية للاستفادة من الربط بالماء الصالح للشرب (500 درهم للأسرة)، عن طريق تثتيب سقايات جماعية، لكل دوار من الدواوير التسعين المشكلة لحد حرارة، إلا أن الوضع لم يتغير، إذ يستمر السكان في التزود بالماء عن طريق المحسنين من أغنياء البلدة، الذين يتوفرون على الآبار في ضيعاتهم.
في قلب سهول عبدة الخضراء، تطوي عجلات السيارة بجهد حذر الطريق غير المعبدة نحو حد حرارة ودواويرها التسعين، تبدو الأراضي قاحلة، تزينها بقع صفراء، تبدو من بعيد وكأنها فاكهة فطر منتشر بشكل اعتباطي في الحقول المهجورة، لكن الاقتراب منها يظهر أن اللمعان الأصفر ليس سوى حجر كلسي أو صخر أصفر بأشكال مختلفة الأحجام، يرى فيه المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، أحجار عثرة أمام تقدم مشروع الربط بالماء الصالح للشرب.
جفاء الطبيعة في حق جماعة حد حرارة يبرز جليا وأنت تدخلها من الشمال، قادما من تراب جماعة أيير، فرغم تجاورهما، تحظى الأولى بسخاء طبيعي كبير، يتجلى في تربة خصبة، كما أنها تستقبل على أراضيها معملا للاسمنت، هو أول مصدر للمداخيل في الجماعة القروية.
لا تحتاج إلى النزول من السيارة للمس روح البادية، المنازل الطينية والحقول المهجورة، وبعض دجاجات فضولية تستقبل الزوار، بينما يجر بغل منهك عربة يقودها طفلان، يتجهان لجلب الماء من صهريج في ملكية أحد أعيان القرية.
قبور سقايات بلا صنابير
كان الهم الأول التأكد من ربط السقاية بالماء في أول دوار، وهو دوار “دراوش”، ثم بعده دواوير “أولاد براهيم بوزدوين” و”لمنادلة” و”لختاتلة” و”حميدات” و”ولاد علي بن الزين” و”الدريدرات” و”رحوحات”، كان التنقل بين الدواوير التسعة بحثا عن سقاية بماء عقابا حقيقيا. كانت السقايات تظهر من بعيد وكأنها مصدر ماء، لكن الاقتراب منها، يكشف الحقيقة الغريبة، إذ لم تكن سوى نصبا إسمنتية دون صنابير.
مشهد السقايات المزورة أو “قبور الماء” كما سماها بعض السكان، لم يعد يثير استغراب سكان حرارة، يقول أحد المسنين، الذي كان جالسا بالقرب من سقابة بدوار “رحوحات” بلكنته العبدية “وها نتوما تتشوفو، كاينة غير كنازة السقاية، أما الما راه مازال تنمشيو نجيبوه من عند المحسنين”.
في البلدة الصغيرة، التي كلفها مشروع الربط المائي ميزانية جماعتها ما يزيد عن 660 مليون سنتيم، يرفض السكان الظهور أمام العدسة، وتفضل الغالبية الشكوى في الخفاء، دون أخذ زمام المبادرة والتصريح .
تقضي الاتفاقية التي وقعت يوم 13 فبراير سنة 2008 بين المكتب الوطني للماء الصالح للشرب في عهد علي الفاسي الفهري وجماعة حد حرارة، بإنجاز مشروع البنيات التحتية “محطة ضخ وخزانات وقنوات الجر، من أجل تزويد 90 دوارا تابعا للجماعة بالماء الصالح للشرب.
تفصل الاتفاقية التي يتوفر “تيل كيل عربي” على نسخة منها، في دور كل طرف في إنجاح هذا المشروع، كما أنها تحدد بالتفصيل مساهمة كل طرف، بدءا من المكتب الوطني للماء الصالح للشرب مرورا بالجماعة القروية لحد حرارة، وانتهاء بمساهمة السكان المستفيدين.
كان الطرف المعني الأول بالأمر والذي يستقبل منذ عشر سنوات شكايات السكان، أول من قصدته “تيل كيل عربي”، على اعتبار الجماعة الطرف الموقع كممثل للسكان في الاتفاقية، لكن عوض أن نجد جوابا وجدنا شكايات اقتربت من البكاء، فكيف ذلك؟
يقول عبد الكبير الهتيب النائب الأول لرئيس جماعة حد حرارة إن تأخر المشروع خلق للمنتخبين في المنطقة مشاكل جمة مع السكان، خاصة وأن الجماعة القروية الفقيرة، أدت ما عليها لصالح الخزينة، وأنها وضعت مساهمتها في المشروع سنة 2010، وهو ما يفوق 661 مليون سنتيم، دون أن تتقدم الأمور قيد أنملة.
ويضيف نائب الرئيس “لقد تعبنا من مراسلة الجهات الوصية. منذ 2010 تاريخ انطلاق عمليات الحفر، إلى غاية 2016، وجهنا 60 مراسلة، وفي كل مرة نتلقى وعودا، ولاشيء غير الوعود، لقد أضروا بعلاقة المنتخب بالساكنة، لا نعرف أي وجهة نقصد، تعبنا من الاجتماعات وتوقيع المحاضر، ففي كل عام نقول إنه الأخير، لنجد أن الأمور لم تتغير، لقد بنوا سقايات بالإسمنت دون تركيب الصنابير، إنهم يضحكون على ذقوننا، ولا نعرف إلى من نتظلم، لذا فأنا أستغل هذه الفرصة لأشكو تأخر هذا المشروع إلى الملك”.
الاتفاقية على بناء سقاية لكل دوار، أي حوالي 90 سقاية، لكن على أرض الواقع هناك فقط أربع سقايات موصولة بالماء، وبحسب المسؤول الجماعي، فإن الجماعة طرقت كل الأبواب دون أن يسجل أي تقدم في المشروع رغم مرور ما يقارب عقدا من الزمن.
ONEE.. نعم هناك تأخير
يقر مسؤولو المكتب الوطني للماء الصالح للشرب بتأخر المشروع، ويقول عبدالله جاحظ، مدير مديرية تزويد العالم القروي بالماء الصالح للشرب، في تصريح لـ”تيل كيل عربي” إن الطبيعة الجيولوجية للأراضي التابعة لجماعة حرارة تعتبر المسؤول الأول عن تأخير المشروع. وحسب جاحظ فإن الأشغال التي انطلقت في 2010 تهم ثلاث صفقات، واحدة خاصة بالقنوات والثانية بالهندسة المدنية والثالثة بالتجهيزات.
يكشف جاحظ أن من أصل 90 سقاية ماء، أربعة متصلة بالماء الصالح للشرب، و16 سقاية أخرى تنتظر تعيين حراس لها، وهو إجراء على المجلس الجماعي أن يتخذه، وستة بنيت وتنتظر مصادقة المختبر حول جودة المياه وخلوها من البكتيريا، أما 69 سقاية المتبقية فهي في طور التجهيز، واعدا بأن آخر أجل لتسليمها وبدء العمل بها سيكون بداية شهر أبريل كأقصى حد.
توضيحات المكتب الوطني للماء الصالح للشرب وإن بدت مدافعة عن تأخر المشروع، إلا أنها كشفت أن مشروع السقايات يطاله تأخير أكبر من الحجم الذي عاينته “تيل كيل عربي” على أرض دواوير حد حرارة.
البنك الدولي.. نراقب وهذه هي الحيلة
أما بالنسبة لمسؤولي البنك الدولي الطرف الذي ساهم بقسط كبير في ميزانية الاتفاقية، فإنه كان أكثر دقة في جوابه.
ففي جواب كتابي من محمد فاضل نداو المسؤول عن الماء في قسم شمال إفريقا والشرق الأوسط بالبنك الدولي، فإن البنك الدولي يراقب تقدم المشروع منذ التوقيع عليه، عبر تنظيم بعثات للإشراف على التنفيذ كل ستة أشهر بالتعاون مع المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب لمراقبة التقدم في إنجاز أهداف المشروع.
وحسب المسؤول في البنك الدولي، فقد تم إنجاز الأعمال التالية إلى الآن، وهي: وضع حوالي 150 كلم من أنابيب المياه، وإنجاز محطتين لإعادة تدوير المياه، ووضع خزان نصف مدفون مساحته 100 متر مكعب، وخزان ثاني مرتفع تبلغ سعته 200 متر مكعب.
وحسب رسالة مسؤول البنك الدولي فإن أشغال وضع محطات النوافير عرفت تأجيلا لأسباب مختلفة. وأنه جرى وضع أربع سقايات مع تعيين حارس لكل واحدة منها، كما تم وضع ستة عشرة سقاية جاهزة للاستغلال ولكن هي بانتظار تعيين حراس لها من قبل الجماعة.
أما ستة سقايات تم شطفها وتطهيرها فهي في انتظار تأكيد الاختبارات البكتيرية من قبل مختبر المكتب الوطني. وينظر أن يتم تشغيلها في الأيام المقبلة.
إصرار الطرفين على أن الأشغال على قدم وساق لا يمكنه إقناع سكان حد حرارة، الذين يئسوا من الانتظار، إذ بعد عشر سنوات، تواصل النسوة والأطفال قطع الكيلومترات لملء قنينات البلاستيك بالماء، وهي عملية يجب تكرارها على الأقل مرتين في اليوم، وذلك في تراب جماعة قروية تقع على مرمى حجر من مدينة كبيرة اسمها آسفي، جماعة قروية فقيرة، دفعت 660 مليون سنتيم دون أن يقترب سكانها من صنبور ماء ولو بـ500 متر.
التعليقات - بالفيديو : تحقيق من قلب جماعة احرارة…4 ملايير و 10 سنوات في انتظار جرعة ماء :
عذراً التعليقات مغلقة