مولاي الطاهر الأصبهاني، رحمه الله، واحد من هؤلاء. عرف كيف يسكن قلوب المغاربة من الوهلة الأولى، وهو يظهر بثوب المندس في ثوب الخادمة في مسرحية “الحراز” الشهيرة، لعبدالسلام الشرايبي والطيب الصديقي، ثم وهو يبرز في مجموعة “جيل جيلالة”، وفي عدد من الأعمال المسرحية والدرامية، فنانا متعدد المواهب، دائم الابتسامة، أنيق القلب والمظهر.
ولأنه فنان موهوب، وكانت بدايته من حيث ينبغي، فقد نجح مولاي الطاهر الأصبهاني في الانطلاق بسرعة وقوة في المجال الفني، وصنع لنفسه اسما مشهودا ومشهورا ومحبوبا أيضا؛ سواء تعلق الأمر بالعمل المسرحي أو الغنائي، الذي برز فيه مع “جيل جيلالة”، المجموعة التي سطرت أحرفا من ذهب في “الظاهرة الغيوانية”، بأغنيات ترددها الألسن، وتطرب لها القلوب، وقد تبكي لها العيون أيضا.
فقد تخلى الأصبهاني، محمولا بعشقه للفن، عن وظيفته في وزارة الفلاحة، رغم أنها كانت توفر له، في مستهل الستينات من القرن الماضي، عيشا كريما، ليطرق باب الفنون، عبر مسرح الطيب الصديقي، حيث سيلتقي بعمالقة المسرح الغنائي؛ بوجميع (بوجمعة حكور) والعربي بطمة وحميد الزوغي وعمر السيد، وآخرين، ويبدأ، بعدها، رحلته الطويلة والتاريخية مع مجموعة “جيل جيلالة”.
ومما ساعد الأصبهاني في النجاح الفني، كونه كان ملما بالتراث المغربي الأصيل، بحكم انتمائه المراكشي، الصوفي (الزاوية الناصرية)، فضلا عن أنه كان ذا صوت جهوري جميل، ثم إنه شكل مع محمد الدرهم ثنائيا رائعا، يشبه “الباص” و”الكونطر باص”، بحيث صارا استمرارا للتطريب الشعبي، الذي ينطلق فيه أحدهم ببيت، ويرد عليه غريمه ببيت آخر، حتى تكتمل الصورة الغنائية، ممسرحة في أذهان المتلقين (الهيتي وأحواش، وغيرهما).
يقول العربي رياض، الإعلامي المتخصص في المجال الفني، والمؤرخ لمجموعات “الظاهرة الغيوانية”، وهو يتحدث عن الأصبهاني في تجربته مع “جيل جيلالة”:”انخرط مع أصدقائه في التمارين، وأخذ على غرارهم يبرز ما في جعبته مما ارتوى مع تراكم تجربته، وسيتضح أن صوته الرخيم لا محيد عنه، فهو الذي يتمتع بقرار دافئ وجميل، ليشكل ثنائيا بينه وبين الدرهم من خلال صوته “لكراف” والصوت شبه الحاد للدرهم”، ثم يضيف:”وسيتم التحاق عبدالرحمان باكو لتكتمل عناصر فرقة جيل جيلالة، وهو الاسم الذي يختزن تأويلات مختلفة، منها الإحالة على جيلالة كعنوان لهوية الفرقة المتشبثة بجذورها التراثية المحضة، وعلى مستوى السياق الاجتماعي لتلك الحقبة، فهي عنوان لرفض ما يجب أن يرفض من خلال استعمال لفظة “لا” أي جيل “لا لا”.
وبحكم تكوينه، وثقافته، وروحه المرحة، وقدرته على الانتقال بين المقامات، وتذوقه للأشعار والأزجال والأنغام أيضا، وخلفيته المسرحية كذلك، فقد أعطى الأصبهاني الكثير لمجموعته، ومن خلالها لشعب كامل، بل وللإنسانية كلها، بمواويل وأغنيات خالدة، سرعان ما تهتز لها القلوب، وتقشعر لها الأبدان، وتطرب لها الأفئدة، ومنها على سبيل المثال “الشمعة” (عن فن الملحون)، و”ها العار أبويا”، و”ذيب الغابةّ، و”ناكر لحسان”، و”يا من عانى”، و”الميزان”، و”اللطفية” (عن فن الملحون أيضا)، وغيرها كثير مما شذا به، فعلا ساميا بالمقام في سماء التطريب.
وكم كان صوت مولاي الطاهر الأصبهاني صادقا للغاية، موصلا للمغزى، مؤثرا في المتلقين، سواء تعلق الأمر بالأغنية العاطفية، أو الاجتماعية، أو القومية، أو الدينية، ولاسيما الأغنية الوطنية، وبخاصة حين شذا صوته الجميل والرخيم بعيون الصحراء المغربية، في خالدة الخالدات “العيون عيني.. والساقية الحمرانية.. والواد وادي يا سيدي، والواد وادي”.
يقول عنه لحسن العسيبي، الإعلامي والكاتب الصحفي، والباحث في التراث المغربي، :”مولاي الطاهر الأصبهاني “بَلْدِي”، بالمعنى الأصيل والعميق للكلمة. أي أنه نسخة مغربية أصلية نحتها صلصال المعاني مثلما يصنع ماء جبال الأطلس الصخر الصلد في أودية الحياة. وواهم من سيبحث له عن أشباه أو نظائر قبل وبعد، فهو نسخة واحدة فريدة، تماما مثل نجم يولد من تفاعل عناصر النار في ديمومة الأبد وضمن صراع المجرات”.
رحم الله مولاي الطاهر الأصبهاني. الفنان المغربي المراكشي الفريد، الذي ملك القلوب، بصوته، وابتسامته، وصدقه. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
التعليقات - مولاي الطاهر الأصبهاني .. الفنان ولد الأصل في ذمة الله :
عذراً التعليقات مغلقة