يجسد الحفاظ على التراث اليهودي المغربي ، من خلال مبادرات متعددة ترمي الى إعادة ترميم وتأهيل مجموعة من دور العبادة والأضرحة والأحياء ، الاهتمام الخاص الذي توليه المملكة، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس ، أمير المؤمنين، لتكريس الهوية الوطنية ، المتعددة والموحدة.
فعلى مدى قرون من تاريخ عريق و “وضاء”، كان المغرب دائما بمثابة “ملاذ” حقيقي للسلام والطمأنينة والتسامح وقبول الآخر واحترام الاختلاف ، مقدما بذلك نموذجا يحتذى في الحوار والتعايش بين الحضارات والأديان والثقافات.
وليس من قبيل الصدفة أن نرى المملكة تشكل “استثناء” على الصعيد العالمي من حيث التعايش المشترك ، من خلال جعل الرافد العبري مكونا أساسيا وجزءا لا يتجزأ من الهوية الوطنية للمغرب الذي يظل “فخورا” ببناته وأبنائه ، مسلمين ويهود ، الذين لا يتوانون أبدا عن التعبير ، أينما كانوا ، عن ارتباطهم الراسخ بالوطن الام والاعتزاز بأصولهم المغربية.
ففي المغرب ، أرض الإسلام ، ونقطة التقاء البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي ، والذي يعد حلقة وصل بين أوروبا وأفريقيا وكذلك بين أمريكا والشرق الأوسط ، يشكل التعايش بين الأديان واقعا ملموسا وطقسا يوميا ، ينبع من وعي جماعي ، وهو أحد مقومات المجتمع المغربي المنفتح والمتسامح.
وقد ساهم هذا التعايش على مر القرون في بناء وإثراء الهوية المغربية ، الغنية والمتنوعة والمتعددة و “الفريدة” ، والتي صنعت تفرد مغرب الأمس واليوم وغدا ، مغرب يشكل “بوصلة” حقيقية يحتاجها العالم اكثر من أي وقت مضى ، خصوصا في ظل سيادة التجاهل والانقسام ، مغرب غني بتاريخه والتزامه الراسخ بقيم ومبادئ السلام والإنسانية والاحترام المتبادل.
وقد تجسد هذا الاهتمام بالحفاظ على المكون العبري للهوية الوطنية وتعزيزه ، منذ البداية ، بإطلاق صاحب الجلالة الملك محمد السادس ، أمير المؤمنين ، لبرنامج واسع النطاق يهدف الى إعادة تأهيل أماكن العبادة مثل كنيس “صلاة الفاسيين” بفاس المصنف ضمن التراث العالمي لليونسكو.
وقد جعلت هذه المبادرة الملكية الهامة المغرب البلد الوحيد في العالم الذي يمضي قدما في إنشاء المعابد اليهودية (صلاة الكحال أو صلاة عطية في الصويرة) ، والمزارات والمقابر اليهودية.
وللإشارة، فإن متحف اليهودية المغربية تديره محافظة مسلمة. نفس الشيء بالنسبة لمحافظة (بيت الذاكرة) في الصويرة ، وهو مركب فريد من نوعه في جنوب البحر الأبيض المتوسط ، يضم كنيس صلاة عطية ، بالإضافة إلى فضاء “التاريخ والذاكرة” ومراكز أبحاث حول القانون العبري المغربي والعلاقات بين اليهودية والإسلام.
مثال بليغ آخر يؤكد على العناية الفائقة بتأهيل التراث اليهودي المغربي يجسده تحديث الحي اليهودي (حي السلام) في مراكش ، الذي استفاد في عام 2017 من أعمال إعادة التأهيل ليتم تغيير اسمه إلى “الملاح” ، وكذا حي الملاح في الصويرة والذي سيتم إعادة تأهيله في إطار مشروع إعادة تأهيل وتطوير مدينة الرياح .
الأمر نفسه ينطبق على المقابر اليهودية في المغرب التي استفادت بفضل التعليمات الملكية السامية ، من برنامج إعادة تأهيل حقيقي ، على غرار مقبرة الجديدة الذي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر ، والتي تضم ضريح الحاخام يحيى حاييم أسولين.
وعلى نفس المنوال، ترأس جلالة الملك في ابريل 2019 حفل إعطاء انطلاقة أشغال بناء متحف للثقافة اليهودية، الذي يندرج في إطار البرنامج التكميلي لتثمين المدينة العتيقة لفاس . وهو فضاء متحفي ينضاف الى المتحف اليهودي بالدار البيضاء الذي يضم تحفا تشهد على حياة اليهود بالمغرب منذ ألفي سنة .
وستتواصل الأهمية المعطاة للحفاظ على الذاكرة اليهودية المغربية في قلب مدينة الصويرة ، مع الزيارة التاريخية لجلالة الملك ، في 15 يناير 2020 ، إلى “بيت الذاكرة ” ، بحضور ثلة من الشخصيات اليهودية من المغرب والخارج ، مثل السيد أندريه أزولاي ، مستشار جلالة الملك والرئيس المؤسس لجمعية الصويرة موغادور.
لقد أتاح تأهيل أماكن العبادة المختلفة ، على الصعيد الوطني ، استقبال آلاف اليهود الذين يحجون الى أماكن العبادة كل عام ، وخاصة خلال أعياد هيلولا ، على غرار مزار القديس الحاخام حاييم بينتو ، أحد مشاهير اليهودية المغربية التي ميزت تاريخ الصويرة أو الحاخام نسيم بن نسيم في قرية آيت بيود (بنواحي الصويرة).
وإذا كان لكل طائفة يهودية وليا خاصا بها، فإن بعض قبور أوليائهم تجذب أتباعا من دول مختلفة من العالم، من قبيل قبور (رابي دافيد أو موشي) بالقرب من أغوويم في الأطلس الكبير الغربي، و(ربي عمرام بن ديوان) بالقرب من وزان، و(مُولاي إرهي) و(ربي دانيال هشومير أشكنازي) و(وربي دافيد هاليفي درعة) بالقرب من دمنات.
وفي تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء ، قال البروفيسور عبد الله وزيتان ، الرئيس المؤسس لمركز دراسات وبحوث القانون العبري في المغرب ، إنه “تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس، تعكس إعادة تأهيل دور عبادة اليهود المغاربة تصميم المملكة على التعريف بتراث ديني وثقافي وتاريخي لا يقدر بثمن “، مشيرا إلى أن هذا التراث الغني يجد استمراريته في فضاء هادئ حيث يتم إثراء وتغذية الجمالية الإسلامية واليهودية عبر قرون.
وأضاف السيد أوزيتان ، وهو أيضًا أستاذ بجامعة بوردو أن “المملكة تدرك هذه المسؤولية الأخلاقية والتاريخية للمساهمة في الحفاظ على هذا التراث الإنساني وتثمينه والذي يستمد شرعيته من عمق تاريخي يعود لآلاف السنين ويتسم بخصوصية استثنائية ، وهي: “ثقافة أصيلة تقوم على الاحترام والكرامة وروح الانفتاح” .
وتابع أن هذا يفسر تمامًا “نجاح” هذا التقارب الاستثنائي ، في أرض الإسلام ، بين اليهودية والإسلام، وبالتالي ، فإن المملكة المغربية تعد نموذجا يحتذى كأرض للسلام ، مبرزا أنه من خلال دينامية إعادة التأهيل هذه سيتم الحفاظ على الذاكرة الجماعية.
وأوضح السيد أوزيتان أنه تم في هذا الصدد “تجديد حوالي عشرين كنيسًا ، وأكثر من 160 مقبرة و 650 مكانًا لعبادة اليهود المغارية في جميع أنحاء المملكة ، وتجديدها وحمايتها من الاندثار، مستشهدا بعدة أمثلة بما في ذلك بيت الذاكرة (صلاة عطية) الذي يضم اليوم متحفًا بالإضافة إلى ثلاثة مراكز للبحث وهي مركز الدراسات والأبحاث حول القانون العبري بالمغرب ، ومركز للبحث في تاريخ العلاقات بين الإسلام واليهودية ومعهد “إنسانية” للإنسانيات المتقدمة في إفريقيا والمتوسط.
ولم يفت الأستاذ الجامعي التذكير بما نص عليه دستور 2011 من تعزيز لروح وحدة الدولة التي تشكلت من خلال تلاقي مكوناتها العربية الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية والتي تغذيها وتثريها روافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية .
وأشار إلى أن هذا القانون الأساسي الرائد أكد أن “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية”.
وأضاف أن “التفرد القوي للمغرب يتجلى من خلال دينامية إعادة تأهيل تراثه وذاكرته، وكذلك من خلال العمق التاريخي الهائل بين الإسلام واليهودية. وبكل بساطة، ونتيجة للثروة العظيمة للهوية الروحية والثقافية للمغرب بكل تنوعه وتعدديته، أصبحت الثقافة اليهودية المغربية حقيقة تاريخية “.
وذكر بأن الوجود اليهودي على أرض المملكة بدأ منذ القرن الثالث على الأقل ، ولا سيما في وليلي ، وهي مدينة رومانية قديمة هجرها الرومان عام 285، مبرزا أن ” اليهود كانوا أول شعب غير البرابرة يستقر في المغرب ، وعلى هذه الأرض نفسها ، وجد اليهود معنى لقدرهم وهو قدرنا اليوم، في المغرب عام 1950 عاش أكثر من 250 ألف يهودي من أصل 10 ملايين في وئام مع مواطنيهم المسلمين “.
وأبرز السيد أوزيتان “في هذه الأوقات المضطربة ، أضحى من الضروري أكثر من أي وقت مضى إبراز المكانة المركزية التي تحتلها المملكة المغربية من أجل تعزيز قيم التسامح والانفتاح، التي يتشبث بها ملكنا بشكل وثيق” ، ليخلص إلى أن المملكة تطلق بذلك إشارة قوية من خلال إظهار قدرتها مرة أخرى على أن تظل فضاء حقيقيا للتبادل والمعرفة عبر تثمين ثراء تراثها التعددي الموحد .
فبمنهجه البراغماتي إزاء مواطنيه ، بصرف النظر عن أديانهم ومعتقداتهم ، كان المغرب الغني بمؤسسة “إمارة المؤمنين”، كما يجسدها جلالة الملك محمد السادس ، حريصا على الدوام على أن يشكل الدين عاملا “حقيقيا” للسلام والاستقرار، من خلال العمل على أن يتعايش اليهود والمسلمون والمسيحيون معًا في سلام واحترام متبادل للتفرد والاختلاف.
إن هذا الاهتمام الكبير بصيانة التراث اليهودي المغربي المادي وغير المادي، وإبراز هذا الارتباط الوثيق بين الإسلام واليهودية ، تم ترجمته من خلال مبادرة جمعية الصويرة- موكادور التي أهدت مدينة الرياح وبالتالي المغرب مهرجانا يسمى ” أندلسيات أطلسية” ، وهو حدث فريد من نوعه في جميع أنحاء العالم يضع اليهود والمسلمين جنبًا إلى جنب يغنون ويعزفون الموسيقى معًا ويحيون التقاليد التي ميزت الصويريين .
إنه أكثر من مهرجان موسيقي واحتفالي، ” أندلسيات أطلسية” التي ذاع صيتها في العالم ، هي أيضًا ملتقى للمناقشات والتبادلات عبر منتدى “مدرسة الصويرة” ، حول قضايا تعنى بالعيش المشترك الذي يميز المملكة.
التعليقات - صيانة التراث اليهودي المغربي احتفاء بالهوية الوطنية المتعددة :
عذراً التعليقات مغلقة