من شكاية مباشرة إلى رئيس النيابة العامة، ثم تنسيق مع عناصر الشرطة القضائية بمراكش، التي نصبت كمينا، بتنسيق مع الوكيل العام للملك، سقط صيد ثمين، يعتبر أكبر “بطل” في قضية فساد في الآونة الأخيرة.
هذه حكاية موظف كبير، أحيل يوم الثلاثاء 12 نونبر 2019 على الغرفة الجنائية الابتدائية بالمدينة الحمراء، بعدما ضبط متلبسا بتلقي شيك بقيمة 886 مليون سنتيم، إضافة إلى مبلغ نقدي قدره 50 مليون سنتيم، غير أن الانتقال إلى “فيلتيه” في كل من مراكش والرباط، كشف عن مفاجآت كبيرة، يمكن وصفها، دون مبالغة، بـ”مغارة علي بابا”. المتهم يبقى بريئا حتى تثبت إدانته، لكن تفاصيل القصة أغرب من الخيال.
كمين يقود إلى “الكنز”
معطيات تفصيلية جديدة في قضية اعتقال مدير الوكالة الحضرية لمراكش في شهر يوليوز الماضي، لتنطلق محاكمته في 21 نونبر الجاري، متلبسا بتسلم رشوة قيمتها 886 مليون سنتيم، إضافة إلى العثور على مبلغ 50 مليون سنتيم في الصندوق الخلفي لسيارته رباعية الدفع، عندما كان يلتقي المشتكي، وهو منعش عقاري، كان السبب في الإيقاع به، بعدما مل مما سماه بـ”الابتزاز المتكرر” من المسؤول، ليقرر التوجه مباشرة إلى رئيس النيابة العامة محمد عبدالنباوي، فيجري الاتفاق على وضع خطة محكمة من أجل الإيقاع بمدير الوكالة الحضرية بمراكش متلبسا.
وحسب مصادر “تيلكيل عربي”، فإن المتهم المزداد سنة 1969 بالقصر الكبير، قدم نفسه خلال استنطاقه على أنه مغربي ويحمل الجنسية الفرنسية، لكنه لا يتذكر رقم جواز سفره الفرنسي.
لم تقتصر الثقوب في الذاكرة على رقم جوازه الفرنسي فقط، بل طالت تذكره لتفاصيل اقتناء هذه المشتريات الكثيرة، والتي نسب أغلبها إلى هدايا من الأصدقاء، بمن فيهم المقاول المشتكي الذي أوقع به.
وحسب المصادر ذاتها، فإن المشتكي لجأ إلى رئاسة النيابة العامة، بعدما كل من ابتزاز مدير الوكالة الحضرية، متهما إياه بطلب رشوة، مقابل التوقف عن العراقيل التي تواجه مشروعا سكنيا راقيا بالحي الشتوي بمراكش، وتسهيل حصوله على ترخيص تجزئة سكنية بطريق الدار البيضاء، كما اتهم المهندس المعماري الخاص بالتواطؤ مع مدير الوكالة الحضرية.
التجزئة السكنية بالقرب من “مرجان” مراكش الواقع في طريق الدارالبيضاء هي مربط الفرس؛ إذ يقر المتهم بأنه لعب دورا مهما في العثور على مشتر لها، وهي أرض تبلغ مساحتها 20 هكتارا، بعدما طلب من مالكها، والمشتري هنا هو المنعش العقاري، فهل كان مبلغ الشيك عبارة عن عمولة عن السمسرة.
مدير وسمسار وعمولة بمليار
بدأت قصة العلاقة بين مدير الوكالة الحضرية لمراكش ورجل الأعمال والمنعش العقاري، سنة 2016، عندما عين المتهم في منصبه الجديد، وحسب مصادر “تيلكيل عربي”، فإنه أقر بتشكل علاقة صداقة بين الطرفين بحكم مهام المشتكي، وأنهما كانا على تواصل دائم منذ ذاك التاريخ، وهي العلاقة التي تطورت إلى صداقة عائلية تشمل زوجة المتهم أيضا.
وإذا كان المتهم ينفي خلال الاستماع إليه من طرف عناصر الشرطة القضائية، اعتبار تلقيه شيكا من المشتكي رشوة، فإنه أقر خلال التحقيق معه، بأن انخراطه في عملية بيع أرض “طريق الدارالبيضاء” وطمعه في تلقي مقابل عن ذلك، وهو ما يتنافى مع منصبه كمدير للوكالة الحضرية ومشرف ومراقب لكافة المشاريع العقارية المنجزة بالمدينة، وأقر أمام المحققين بأن منصبه لا يخول له ممارسة هذا النشاط؛ أي تلقي عمولة عن سمسرة في أرض شاسعة تقع في موقع حيوي في المدينة الحمراء.
بالنسبة لمهندس معماري تخرج سنة 1995 من المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بالرباط، والذي يملك ثلاث فيلات في كل من الرباط ومراكش وبوسكورة، فإن الشيك السمين بـ886 مليون سنتيم، إضافة إلى مبلغ 50 مليون سنتيم اللذين ضبط وهو يتلقاهما من المشتكي في الكمين المنصوب له في شهر يوليوز المنصرم، لا يعدوان كونهما جزءا من أتعاب لشركة تمتلكها زوجته.
كيف لرجل مسؤول في منصب حساس أن يتلقى رشوة عبر شيك؟ فبغض النظر عن الخمسين مليون نقدا، كان الشيك في اسم شركة مملوكة لزوجة المتهم، وحسب مصادر “تيلكيل عربي”، فإن المتهم اعتبر أن الشيك هو تسبيق على تعاقد بين شركة المشتكي وشركة زوجته.
ويدافع المتهم عن نفسه بالقول إن المشتكي طلب منه مساعدته في العثور على شركة للاستشارة والمواكبة بشأن عملية اقتناء القطعة الأرضية المذكورة، فما كان منه سوى أن اقترح عليه خدمات شركة زوجته.
ويذهب المتهم بعيدا في تبرير تلقيه للشيك ومبلغ 50 مليون سنتيم، بالقول إن زوجته والمشتكي التقيا ليتفقا على مبلغ يناهز مليارا و300 مليون سنتيم، كمقابل على هذه الخدمة، وأن المشتكي أخذ في تقديم اقتراحات بخصوص كيفية أداء هذا المبلغ، حيث اقترح بداية أن يتم الأداء بفرنسا دون أن يتم تفصيل طريقة ذلك.
الزوجة والأب والصديق.. علاقات قرابة أم غطاء؟
بالنسبة إلى مدير الوكالة الحضرية المعتقل، والذي أحيل يوم الثلاثاء 12 نونبر الجاري على غرفة الجنايات الابتدائية بمراكش، فإن الاتفاق بين المشتكي وشركة زوجة المتهم كان شفويا، مقدما وثيقة رأى فيها عقدا بين الطرفين، غير أن المحققين، تضيف المصادر، رأت في الوثيقة مجرد ورقة “Lettre de Mission”، وأنها لا ترقى لأن تكون عقدا، لأنها ورقة مقترحات، وبالتالي لا يمكنها بتاتا أن تنتج أي أثر قانوني في غياب اتفاق رسمي بين الطرفين؛ إذ أنها موقعة فقط من طرف زوجته لوحدها، ولا تحمل توقيع المشتكي، كما أنها لا تتضمن أي تنصيص بتحديد العقار موضوع المعاملة.
مصادر “تيلكيل عربي” وقفت عند نقطة مهمة؛ رأت أنها تدحض بقوة مزاعم المتهم. فقد وجد المحققون أن الوثيقة “الاقتراح” أنجزت سنة 2018، أما الفاتورة فأنجزت بتاريخ 07 يونيو 2019، علما بأن عملية اقتناء العقار ابتدأت أواخر 2017، وهو ما يؤكد، حسب المحققين، أن شركة الزوجة لا علاقة لها إطلاقا بهذا الاقتناء، وأن توقيعها عل هذه الوثيقة جرى ربطه زورا من طرف الزوج.
وحسب المصادر ذاتها، فإن المحققين واجهوا المتهم بكون مزاعمه واهية وغير مقنعة واقعيا وقانونيا، وأن إقحامه لزوجته وشركتها في هذا الموضوع يبقى دون جدوى ولا يدفع عنه تهمة الابتزاز والارتشاء واستغلال النفوذ، بحيث أن التفافه يبين مدى تورطه ويؤكد دهاءه واعتماده على وسائل احتيالية تقوم على التزوير في سبيل الإيهام بقيام معاملة بين الشركتين كي يتخذ ذلك غطاء لتلقي الرشوة.
لكن رغم مواجهته بهذه التهم، واصل المتهم تشبثه بأقواله النافية لتلقي رشوة تقارب المليار سنتيم، رغم أن المحققين واجهوه بأن شركة زوجته لها تخصص معين وفق السجل التجاري الخاص بها، إذ أنها تقوم بالهندسة الاستشارية وإنجاز دراسات في جميع المجالات والنشاطات، وتوفير جميع الموارد والاستعانة بطاقات خارجية في مجالات الصحة وتأمين ظروف العمل والبيئة، وأن الوساطة في اقتناء العقارات وتلقي العمولات عن ذلك يبقى بعيدا عن تخصص الشركة، ولا يحق لها بتاتا ممارسة هذا النشاط، الذي يبقى منظما بموجب نصوص قانونية معينة.
شكوك المحققين حول استعمال شركة زوجته كغطاء لتلقي عمولات ليست من حقه وتتنافى مع منصبه عززه أيضا العثور على دفتري شيكات في “فيلته” في مراكش باسم شركة ثانية، وهو شيك قال عنه المتهم إنه يعود للشركة المملوكة لوالده وزوجته في إطار مفاوضات مع بنكها لتشتري هذه الشركة المتخصصة في الإنعاش العقاري، لكنه أقر بأنه لا يتذكر الظروف التي من أجلها بقي دفتر الشيكات بحوزته.
لم يقتصر إقحام مدير الوكالة الحضرية لمراكش على زوجته ووالده، بل وصل أيضا إلى والدته، حينما كشف للمحققين على أنها تمتلك نسبة من مطعم شهير في مراكش؛ إذ برر عيشه في مستوى باذخ، بكون والدته تمتلك الثلث في هذا المطعم الذي يحقق شهريا رقم معاملات يصل إلى 50 مليون سنتيم، وأن والدته تسلمه منذ عشر سنوات مبالغ مالية تتراوح ما بين 20 ألف درهم و40 ألف درهم، كما أن والدته تتنازل له عن هذه المداخيل، باعتبار أن لها مداخيل أخرى تتجسد في امتلاكها لعمارة بفاس مكتراة بكاملها.
ورغم ضبطه متلبسا بتسلم شيك سمين، ومبلغ 50 مليون سنتيم، والعثور على عشرات الساعات الثمينة والباهظة الثمن وما يزيد عن مائة قطعة ذهبية ومجوهرات وأحجار كريمة، وما يزيد عن السبعين حقيبة يد فاخرة، وشعرات النظارات الشمسية الغالية، واصل المتهم تشبثه بأقواله، وأنه اقتنى هو وزوجته أغلبها، أو تلقاها كهدايا في مناسبات مختلفة من الأصدقاء والعائلة، إلا أن المحققين لم يقتنعوا بتفسير المتهم لهذه الوقائع، أقواها أن موظفا يفوق راتبه الشهري 40 ألف درهم، وينعم بعطاء والدته، وهو ما يتجلى في تنازلها لصالحه على مداخيل الثلث من مطعم في مراكش، كما أن راتب زوجته من الشركة التي تمتلكها يصل إلى 100 ألف درهم، وكرائه لفيلا يملكها في بوسكورة بـسومة شهرية تبلغ 17 ألف درهم، ورغم كل هذا، فإنه صرح للمحققين، بأنه لجأ إلى الاقتراض من أحد أصدقائه، وهو مهندس معماري، وجاء إدراج اسم الصديق، ليبرر مدير الوكالة الحضرية توفره على المبلغ النقدي المحجوز في “فيلته” في مراكش، والبالغ 250 مليون درهم.
تبقى القضية مفتوحة على مزيد من التشويق والإثارة، خاصة بعد أن جرت متابعة المتهم من طرف قاضي التحقيق بغرفة جرائم الأموال باستئنافية مراكش على الغرفة الجنائية الابتدائية بالمحكمة نفسها، بتهمة تلقي رشوة، كما تمت متابعة زوجته ومهندس معماري من الرباط في حالة سراح بالمشاركة في تلقي الرشوة، مع المنع من مغادرة التراب الوطني. وحددت النيابة العامة تاريخ الجلسة الأولى في يوم الخميس 21 نونبر الجاري.
التعليقات - الرشوة الكبيرة.. كنز لدى مدير الوكالة الحضرية بمراكش! :
عذراً التعليقات مغلقة